تخطي للذهاب إلى المحتوى

قصة صبحي درّة


 

  الطفولة بين الغياب والمجهول 

 

تُغريني بعلبك منذ كنت طفلاً صغيرا أمشي في أزقّـتها ممسكاً يد أبي. تُغريني أزقّتها المنسوجة من خيطان الشمس الوهّاجة. تضمّ طفولتي وأحلامي قبل أن يغتالهم القدر ، فأفتقد المشيَ بزهوٍ ولحظات الهناءة القصيرة التي عبرت، قبل أن يموت أبي.

تركني أبي أتعثّر بسنواتي الأربع مع أخٍ يكبرني بعام واحد وأخٍ وليدٍ بالكاد بلغ الشهر! بحثتُ عن وجه أمي لأدفنَ هشاشتي في حضنها فما وجدتها، كانت أمي مريضة  قلّما تغادر المشفى ، فكفلنا خال لنا: صبية ثلاثة  صغار أكبرهم في الخامسة وصغيرهم رضيع، قسا الدهر عليهم فسلبهم حياة الأب وحضور الأم الدائم، حتى صرت أكره كلمة المشفى كلما سمعتها، فهي ذلك المكان الذي أخذ أمّي إليه، ذلك المكان القابع بين شجرات كثيرات في بقعة جميلة وهادئة لا تشبه قريتنا أبدا، أستشعر جمال المكان لكن فرحتي به سرعان ما تذوب حين نغادره ونخلّفُ أمي داخلَه لأن رئتيها التعبتين تحلمان بالشفاء بين أروقته.

حلّ الخريف الأول على يتمنا فاصطحبنا خالي أنا وأخي الأكبرعلي الى مبرّة في بعلبك، حيث ضمّتنا مبرّة متواضعة. لم يرحمنا اليتم، صادر أحلامنا الصغيرة ، كدت أنسى وجه أمي  وتفاصيل ملامحها  الى أن انقضت سنوات أربع على عالمنا الصغير في مبرة بعلبك،  وقرّر خالي ذات يوم أن مبرّة في بيروت ستكون وجهة أيامنا القادمة.

بيروت التي كنا نسمع باسمها فقط ، سننتقل اليها للعيش! بدت الفكرة مغرية بالمجهول الذي تكتنفه الى أن صار الإغراء واقعا ماثلاً أمام اعيننا.

وقفت في باحة مبرة الدوحة، مشدوها تغمرني فرحةٌ خفيّة. أصابني الدوار وشيء يشبه الدوخة وأنا أتامل ملعبا فسيحا جدا وأبنية متعددة  وطبقات كثيرة. بدا الأمر كأنها  مدينة صغيرة للأحلام، بغرف النوم  الكثيرة والأسرّة  الملونة  وغرف الطعام واللعب والدرس وملابس الأولاد، تبادلت النظر مع أخويّ، كانت فرحتهما بالمكان الجديد  تشبه فرحتي. البحر الذي طالما سمعنا باسمه ، كان مجاورا لنا ، لقد رأيته وملأت عينيّ منه!

إستأجرتْ أمي غرفة صغيرة في حيِ السلّم، لم ترضَ أن يغادر أيتامها الى المدينة وحدهم، أصرّت على انتظارنا في كل نهاية أسبوع، إذ نعود اليها لنقضي يوميّ العطلة، نؤنسها وتؤنسنا، ونغمرها وتغمرنا، أمهلها المرض كي ترى صبيتها الثلاث يكبرون  بسرعة ويزدادون طولا.  لقد صرنا في المرحلة المتوسطة أنا وأخي علي، وحسن في صفوف الإبتدائية،  تتباهى بحكاياتنا التي نسردها على مسامعها عن ليالي المبرة وأيامها ، فلا تعود تستشعر مرضها ولا يتمنا، تصبر على غرفتنا الكئيبة التي يدلف سقفها المعدني علينا محوّلا أرضها الترابية الى مستنقعات صغيرة، كانت تعرف وكنا نعرف أن المستقبل الآتي سيضحك كثيرا في وجوهنا ليحاول تعويضنا عما اقترفه الماضي بحق طفولتنا اليتيمة.



 محطات الرعاية والتكوين

في المبرة، تعلّقتُ كثيرا بالحاج علي:  المسؤول الرعائي الذي كان مشرفا على أسرتنا، كنت أنتظر العودة من صفوف المدرسة الى الغرفة لنكون تحت عينيه . لم أعد أستشعر ثقل اليتم ، صار الحاج علي أباً بديلا، أحببته و تعلق قلبي به، كان سلوكه يأسرنا  بتعامله معنا وتشجيعه لنا. ينادي فينا كل وقت: " من سيؤمّ الصلاة بنا اليوم؟ فنتزاحم ونتنافس كي ننال فرحة التباهي أمام بعضنا أيّنا يتقن صلاته وتلاوته أكثر؟

ثلاث سنوات مع الحاج علي نستمد منه الأخلاق والتجربة والحنان والتشجيع الى أن سمعنا يوما أن إسرائيل اعتقلته وساقته الى سجن الخيام. اسودّت الدنيا بعينينا وعرفنا أن المشرف علينا كان مخلصا قولا وعملا، ما يعلّمه للآخرين يطبّقه على نفسه أولا. وكم سأشتاق الى وجهه وكلماته ونصائحه، لم يكن الحاج علي موظف إشراف رعائي، كان أبا روحيا ومعلّما ومرشدا ترك فيّ وفي زملائي أكبر الأثر.

وكان في المبرة كلها تلفاز واحد! يحتلّ أحلامنا ومخيلتنا يما يعرضه. تلفاز واحد كان في غرفة الأسرة الرياضية التي تضم فتيانا يلعبون كرة القدم بشكل أفضل منا . لطالما كنا نحسدهم ونتمنى العيش في غرفتهم ولو ليوم واحد، إنهم يمتلكون تلفازاً، يا إلهي! ويسهرون الليل ليشاهدوا مع المشرف عليهم مباريات الدوري الأوروبي التي كنا نسمع عنها سماعا.

بعد سنتين من دراستنا في بيروت ماتت أمي

ماتت قبل أن تأتي السنة التي سأتقدم فيها مع أخي لشهادة البريفة!

لو أنّ الموت أمهلها سنة اخرى لكانت فرحتها بحجم الكون! لكن الموت لا يستأذن أحدا.

و كان علينا ان نتأقلم مع الحياة بلا أمٍ ، إخوة ثلاث تشاغلهم المبرة بالدرس والجهد ولا بشيء سواهما ، كي يحظوا بالنجاح الذي حظيت به أنا وأخي، في الشهادة الرسمية .

حين نجح أيتام المبرّة في الشهادة يومها، ما زلت أذكر زيارة مطوّلة قام بها سماحة السيد لنا. السيد الذي كنا نعرفه جيدا من الصلاة والدعاء والخطب ، جاء إلينا ليسهر معنا سهرة مطوّلة. جلسنا في قاعة المسرح يومها وما زالت كلماته تطن في أذني:" ستخرجون من هذه المبرة الى دروب الحياة، اعملوا لتليقوا بالعيش الكريم، حافظوا على صلواتكم  وأخلاقكم دوما، واذهبوا الى عائلاتكم وأقاربكم ولا تنسوا أرحامكم إن كان بعضهم قد نسيكم!"

في الثانوي الأول انتقلت مع زملاء الصف الى بئر العبد، حيث كان صفّنا غرفة في روضة براعم الإيمان، نعود منه لننام في مبرة الدوحة، لم تكن وسائل النقل يومها بالوفرة التي صارت عليها لاحقا، إذ طالما قطعنا نصف الطريق سيراً على الأقدام.

وكنا حين عودتنا من المبرة الى بيتنا ، نجتمع في غرفتِهِ الواحدة ذات الأرضية الترابية ، نغطيها بالكرتون كي لا يصل الماء الى أشيائنا وأغراضنا. كل عدة ايام نبدّل الكراتين. ياتي أصدقاؤنا من المبرة فنجتمع لنملا خزّان المياه على سطح الغرفة.  كنا نرفع الماء بالدلو من البئر ثم نصعد درجات السلم لنصل الى السطح ونفرغها في البركة... وكم كنا سعداء بذلك الشقاء الذي أذاقنا طعم الحياة الحقيقي.



من العمل القاسي إلى مقاعد الجامعة

في الثانوي الثاني نقلتنا الجمعية الى مبنى في منطقة صفير ، نجاور فيه مؤسسة أخرى من مؤسسات الجمعية هي مدرسة الصم والبكم. أنهيت العام بنجاح، وحين صرت في الصف الأخير قررت ترك الدراسة! فقد اتخذت قرارا بمساعدة أخي علي الذي كان يعمل في أشغال متفرقة ليؤمن طلباتي أنا وأخي الصغير حسن.  وفي الرابعة عشرة من عمري عملت  مساعد نجّار في منشرة، وعملت ميكانيكيا وفي ورش حدادة السيارات ، في معمل باطون ، وبائعا متجولا، واشتغلت  في معمل شهير للزجاج، إذ كانت مهمّتي جمع الزجاج المطحون وإدخاله الى فرن  الصهر الحراري حيث الحرارة 1000 درجة !  كنت أخبئ رعبي في أحيان كثيرة متخيّلا يدي تلامس الفرن وألسنة اللهب، فأداري خوفي متصنعا بأسا لا أملك منه الكثير.

في خضم سنوات العمل قررت العودة للدراسة.  سجّلت نفسي  في معهد خاص لعلوم الكمبيوتر ثم تفرغت للعمل في متجر متخصص للثريات والتحف. أنفقت مدّخراتي بعدها في الدراسة الجامعية حتى تخرجت بشهادة في علوم الكومبيوتر.

عشر سنوات قضيتها أكدح على نفسي وحلم أيام المبرة لم يفارقني. ماذا لو لم تكن المبرة موجودة في حياتي انا وأخويّ؟ أي مصير كنا فيه الآن؟ كم عملت وتنقلت من مكان الى مكان ونفسي تنازعني بالعودة الى بيتي الأول، يضحك البعض من تفكيري لكني أقول لنفسي " كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحبه دوما لأول منزل ... ما الحب إلا للحبيب الأول!"




العودة إلى الجذور: من يتيم إلى مربٍ ومرشد  

وعدت الى المبرة .

تركت أشغالي القديمة ووظيفة تعلقت بها لاعود في العام 2007 الى المكان الذي أحببت.

عدت الى المبرة التي حضنت طفولتي لكني عدت اليها ناظرا في القسم المهني أرعى شؤون الطلاب. هناك ، عاودت رؤية أستاذي القديم ومعلّمي الأول: الحاج علي! كان قد خرج من المعتقل وعاد الى شغفه التربوي الذي لا ينضب.فرحتي بلقائه وبزمالته في العمل طغت على كل مشاعري وأنستني هموما كثيرة من هموم الحياة.

المبرّة التي آوتني مع إخوتي أيتاما صغارا زرعت فيّ تربية استشنائية . لم أستطع ان أفارقها حين كبرت وتعلّمت أكثر. كأنّ تلك التربية تداخلت مع شراييني وفي تكويني، فقد عدت اليها لأتنقل بين رحابها معلما ومشرفا ومربيا ومديرا ومسؤولا في بيروت والجنوب والبقاع والهرمل، كلما نظرت في عيون الأيتام والمحتاجين تحضرني صورتي القديمة .  انا الطفل الصغير الذي كنته قبل أن أكبر. انا اليتيم المحتاج قبل ان أستغني. أنا الضال قبل ان أستهدي والضائع قبل ان أجدني.

كيف سيتمرّد قلبي عليّ ذات يوم لأنسى او أغفل؟ عن هذه المهمة الربانية التي وضعها الله في طريقي وساقني إليها. فله الحمد والشكر ولها الإعتراف بالجميل والحب كله.