تخطي للذهاب إلى المحتوى

قصة الدكتور محمد عبد العلي غساني


 

  الطفولة والوداع الأول

 ولدت منتصف الثمانينات في قرية عاملية اسمها الحلوسية، وبعد عام واحد على ولادتي توفي أبي، تاركاً ثلاث فتيات صغيرات وصبيين صغيرين، لا يتجاوز عمر أكبرهم سبع سنوات.

حين بلغت السادسة من عمري، نصحوا أمي أن ترسلني إلى مبرّة قريبة من قريتنامبرّة الإمام علي في معروب. وذهبت أمي تتعرّف وتستدلّ بنفسها على المستقبل الجديد الذي ينتظر ولديْها. وأنا الصغير المدلّل المعلّق بأمه، لم أعِ حقيقة الأمر وصعوبته إلّا حين كنت أرى أمي تمسك بيدي أنا وأخي عباس لتوصلنا بنفسها إلى المبرّة. لا سيارة خاصة تقلّنا ولا حافلة، نمشي بجانبهاوهي تقف على جنب الطريق منتظرة من يقلّنا بطريقِهِ، كي نقطع القرى الثلاث لنصل إلى معروب حيث مقصدنا.

تعاود أمي إمساك أيدينا لنتحضّر للدخول فتصبح الدنيا سوداء أمام عينيّ! أنا طفل أمي الصغير لا أريد أن أفارقها، أبكي وأبكي وأصرخ وأركل الأرض مرارا... تحاول أن تهدّئني فأتعلق بثوبها إلى أن يتمزق ثوبها فتشهق بوجهي: مزقت ثيابي !! هيك بدك؟؟

ثلاث سنوات مضت وأنا أبكي نائحاً في طريق الذهاب إلى المدرسة، وأركض لاهثاً في طريق العودة. ومضتْ تسع سنوات. تمرّستُ على النظام والدرس والترتيب والتحضير، حتى صرت أشكو من الفوضى والعبث وإضاعة الوقت إن وجدتهم. وصرت حين العودة إلى البيت أعود من المبرّة مشياً على الأقدام، ليس حباً بالمشي لكن لتعذّر وسائل النقل. وأصل بعد ساعات المشي لأقع بين يدي أمي، تضحك وتبتسم لي، لقد صرتُ فتى كبيراً أنهى صف البريفة بجدارة. يتيمها الصغير المدلّل صار ذكياً شغوفاً بالدرس، لكن الفرحة الكبيرة بإنهاء المدرسة تصاحبها حسرات وهموم المبرّة في معروب،لا يوجد فيها أكتر من الصف التاسع.

 

 

من معروب إلى الرويس: رحلة التحدّي

 وجاء الحلّ من جمعية المبرّات: الولد سيتابع ويكمل دراسته بشكل عادي جدا، لكن في بيروت!

وضمّتْني ثانوية الإمام الحسن(ع) في منطقة الرويس، صرتُ واحداً من تلامذتها، لكني أختلف عن أترابي بكونهم يعودون كل يوم إلى بيوتهم ليأكلوا ويدرسوا ويناموا، أما أنا فكان عليّ أن أعود إلىمبرّة الإمام الخوئي في الدوحة حيث دبّرتْ الجمعية لي مأوىً ومسكناً ومأكلا. ومضتْ ثلاث سنوات على هذا الحال، أتحمّل فيها عبْء الانتقال اليومي من الدوحة إلى الرويس ثم العودة بعد الظهر.. أخبئ قطعة النقود المعدنية بين أصابعي كي لا تضيع مني في زحام الشوارع، فأفقد حلم العودة إلى السكن، أعدّ ما تبقّى معي من الليرات وأنا أتمنى ألّا أحتاج ما لا طاقة لي به. أعود إلى باصات الطريق، حفظتُ وجوه السائقين، ومواعيد أحلامهم ومواقيت حماسهم وغضبهم، صارت الطريق الطويلة جزءا آخر من عمري، إلى أن نجحتُ في الثانوية وأنهيتُ كل سنوات المدرسة، وحان تحقيق حلم الوصول إلى الجامعة!



الجامعة: من طالب إلى مرشد

 بمساعدة جمعية المبرّات دخلت لأدرس علوم الإحصاء، كانت علاماتي جيدة جداً في العلوم العامة،سحرني عالم الأرقام حتى تخرّجت منه بعد أربع سنوات بإجازتي الجامعية. وكنت طيلة سنوات الجامعة أكمل عيشي ومسكني ومأكلي في المبرّة. استلمت مسؤولية الإشراف على مجموعة صغيرة من الأيتام، أتابعهم بعد الظهر، أراجع لهم دروسهم، أسهر معهم، ثم أوقظهم صباحاً ليذهبوا إلى المدرسة وأكمل أنا إلى الجامعة.. أراقب عقارب الزمن تعود بي إلى طفولتي، كنت أنا ذلك اليتيم الصغير مكانهم. كنت أنا المحروم من أبٍ رحل، وأمٍ تنتظر أوْبتي وصورة وجهي كل أسبوعين. كنت وكنت، لكني الآن شاب أنهى تخصصه الجامعي ويحلم بالسفر إلى فرنسا ليكمل دراسته.



فرنسا، الدكتوراه، والعودة وفاءً للمبرّة

لم يكن نظام المنح الدراسية معروفاً آنذاك. عدت لأثقل على أمي من جديد، لم أتعلّق بثوبها هذه المرّة أو أمزّقه، تعلّقت بأحلامها، دبّرتْ قليلاً من الديون التي ساعدتني لأستقل الطائرة إلى فرنسا، لأكمل دراسة الماستر والدكتوراه في جامعة جرينوبل الأولى.

رحلتي إلى فرنسا كانت شبيهة برحلتي إلى المدرسة الثانوية. ثلاث سنوات وأنهيتُها بجدارة، أدرس في الخريف والشتاء والربيع لأعود صيفاً إلى ضيعتي، إلى أمي، إلى دروب المبرّة الأولى والحضن الأول.. وما بين العودة والذهاب، أعرّج في طريقي على إدارة الجمعية، وأستلم بدل أقساطي الجامعية، وأنا أقول لنفسي كل يوم، لولا المبرّة في القرية القريبة من ضيعتنا ما كنت تعلّمت ولا فككت حرفاً.. لولا المبرّة وما فعلتْه الجمعية معي، كنت الآن كائنا ما، يجلس على مصطبة باب البيت أمام الدار، لينتظر دورة الأيام ونهايات الأقدار..لولا المبرّة والجمعية ما كنت الكائن الذي صرته.

في بداية دراستي وتحضيري للدكتوراه، بدأت العمل في جامعة غرينوبل الثانية. وحين أنهيت شهادة الدكتوراه أرسلت بطلب أمي كي  تأتي وتحضر بنفسها حفل تخرّجي واستلامي للشهادة، وفعلاً جاءت.

وحين أنهيت الدكتوراه عُدت إلى لبنان،عُدت إلى جمعية المبرّات كمن يريد سداد دينٍ ما، فللجمعية أيضا تعب وسهر أحاول تعويض بعضهما.عملت ضمن جمعية الخرّيجين، في متابعة شؤون الإعداد والتوجيه الجامعي للطلاب، إلى جانب عملي الرسمي والحالي كأستاذ مادة الإحصاء في الجامعة اللبنانية وجامعات أخرى.